LOGO

المخابرات عبر التاريخ

ينبغي ملاحظة ان "استطلاع" و"بحث" الانسان البدائي القديم عن ارض صالحة للزراعة او الصيد اكثر امانا من سواها، هو اول الاعمال "الاستخبارية" التي قام بها الانسان، وهو "اختصاص" سيرافقه في كل خطواته على هذه الارض!

فحيثما كان هناك صراع او تحديات او رغبة في تحقيق شيء جديد كان هناك استطلاع ومحاولة معرفة ما يملكه الطرف الاخر في الصراع.. فهذه المعرفة تكاد ان تكون كسبا لنصف المعركة قبل بدئها.

ومنذ البداية كان للمستطلعين الافراد الدور الاكبر في العمل وجمع المعلومات، وما ان تطورت الحياة والمجموعات البشرية، حتى تطور العمل الاستخباري واصبح قائما على مؤسسات وتخصصات وباسماء مختلفة حتى وصلت لاسمها الحالي في العالم: المخابرات.

ولا غرابة والحالة هذه ان تقاس قوة الدول بقوة جهازها الاستخباري وما تملكه من معلومات عن غيرها.

هنا وقفة سريعة ومختصرة عن هذا العمل الخطير عبر التاريخ.

كان الفراعنة، ووفقا للوثائق، اول من استخدم العمل المخابراتي بشكل منظم وقد حصل هذا قبل 5200 عام.

ففي زمن الفرعون تحتومس الثالث قام قائد جيشه "توت" بادخال مجموعة من جنوده الى داخل مدينة يافا بطريقة مبتكرة وهي وضعهم في اكياس القمح ليدخلوا الى المدينة المحمية باسوار منيعة.

وهناك نشط الجنود في اشاعة الفوضى داخل المدينة المحاصرة ونشر الاشاعات والارتباك في صفوف اهل يافا وقاموا، وفقا للخطة، بفتح اسوار المدينة من الداخل لتسهيل دخول جيش الفرعون الى المدينة المحكومة يومئذ من الهكسوس.

وهي حادثة تذكرنا باسطورة حصان طروادة الشهيرة وخلاصتها ان الاغريق عندما حاصروا طروادة واستعصى عليهم دخولها، قام الاغريق بارسال جواسيسهم ليمهدوا للعمل التالي وهو اقناع اهالي طروادة بقبول هدية الاغريق كعربون صداقة عن رغبتهم بالسلم وانهاء الحصار.

وبالفعل قام جاسوس إغريقي، اسمه سينون، بإقناع الطرواديين بأن الحصان هدية سلام ولا بد من قبوله وهو ماحصل بعد تفتيش الحصان الهدية.

فماذا كان داخل الحصان؟

تقول الاسطورة ان طوله كان يبلغ 108 مترا ووزنه قرابة ثلاثة اطنان، وهو مصنوع من الخشب، وكان مجوفا وتم اخفاء الجنود داخله بمهارة.

وعند دخول الحصان احتفلت المدينة بالسلام وتراخى جنود طروادة. وفي الليل تسلل الجنود الاغريق من الحصان وقاموا بفتح ابواب المدينة لجيشهم الذي دخل واحتلها!

ويميل المؤرخون الى اعتبار الحصان اسطورة لانه لم يتم ذكره في الالياذة التي الفها هوميروس.. لكن هذا لم يمنع تكرار تجربة الحصان في الحرب التي نشبت بين الرومان والجرمان ولكن هذه المرة باسم حصان زكاونة.

كانت المخابرات والاستطلاعات رفيقة الحروب الدائمة.. فلا حرب يمكن كسبها دون امتلاك معلومات عن العدو وما يملكه ومعرفة خططه.

وقد خلف لنا التاريخ والاديان كذلك اشارات واضحة ووقائع عن العمل الاستخباري في منطقتنا.. واول اشارة نجدها في التوراة (الاصحاح الثالث عشر من سفر الملوك).

فعندما خرج النبي موسى بقومه من ارض مصر اختار (70) رجلا للقيام بمهمة استطلاعية في ارض الكنعانيين وطلب منهم ان يقوموا بالتالي كما جاء في نص التوراة:

"اصعدوا من هنا إلى الجنوب، واصعدوا إلى الجبل، وانظروا الأرض ما هي والشعب الساكن فيها، أقويّ هو أم ضعيف، قليل أم كثير؟ وكيف هي الأرض، أجيدة أم رديئة؟ وما هي المدن التي هو ساكن فيها، أمخيمات أم حصون؟ والأرض أهي سمينة أم هزيلة؟ أفيها شجر أم لا؟ ».

وعاد "عيون" موسى ليقولوا:

"إن أرض كنعان يتدفق منها اللبن والعسل، وإن سكانها من العمالقة الجبابرة الضخام"!

وثمة اشارة في القران الكريم وتحديدا في سورة النمل عن اعتماد الملك سليمان الحكيم على العمل الاستخباري قبل الاقدام على اي عمل رغم توفر الانس والجان لخدمته.. وجاءت هذه الاشارة في سورة النمل حيث يقول الهدهد للنبي سليمان:

(أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ"22" إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ"23") سورة النمل.

وعندما تقرا سورة النمل في القران الكريم ستجد في قصة الهدهد والمعلومات التي اتى بها للنبي سليمان وكيف تم التعامل مع هذه المعلومات، خلاصة مركزة لعمل المخابرات عبر التاريخ، وايضا اعتماد القيادة العليا للدولة على المعلومات المؤكدة التي ياتي بها المخبرون وجهازهم.

وعند ظهور الاسلام لم يكن ثمة جهاز استخبارات او عمل استخباري منظم وكان يتم الاكتفاء بارسال بعض الصحابة، كافراد، الى معسكر العدو لجمع المعلومات عنهم.

وقد توسعت نسبيا مهمات "العيون" (وهو اسمهم في ذلك العهد) في زمن الخليفة عمر بن الخطاب لتشمل مراقبة الولاة والمجتمع الاسلامي بعد توسعه.

وفي الدولة الاموية انشيء بشكل احترافي جهاز استخباري يرأسه "صاحب الخبر" وهو رئيس الجهاز وكان مكرسا لمراقبة ومطاردة الشيعة والخوارج وغيرهم.

لكن التطور الاكبر حصل في بداية العصر العباسي.

ويمكن القول ان جهاز المخابرات فيها ساهم في انشائها فهذا الجهاز قام قبل انشاء الدولة بسنوات. ويمكن القول ايضا ان قيام دولة العباسيين كان تتويجا لعمل سري ومنظم استمر لسنوات طويلة دون ان تستطيع المخابرات الاموية كشفه.

كان عمل الجهاز احترافيا الى حد كبير في جمع المعلومات وفي نقلها ايضا وفي اشكال التمويه التي اعتمدها في اتصالاته واستخدم التجار والمغامرين والبحارة وكل ما يخطر في البال في تنفيذ مهماته.

وعندما قامت الدولة العباسية على انقاض الدولة الاموية كان جهاز المخابرات ابرز واهم مؤسسات هذه الدولة وقام بمطاردة القادة الامويين الذين كان يعرف اسمائهم وعناوينهم واين يذهبون في الطواريء. وايضا ساهم الجهاز لقرون في حماية الدولة العباسية من اعدائها وخصومها.

كان يعمل تحت إمرة الجهاز عدد كبير من العيون وكان برئاسة "صاحب البريد" الذي تولى بث عيونه في مختلف ارجاء الدولة وكانوا يقدمون له التقارير التفصيلية عما يحصل وكان مدير المخابرات "صاحب البريد" يقدّم خلاصة هذه التقارير إلى الخليفة ليرى رأيه فيها.

لقد مر اسم المخبر بتعبيرنا الحديث بتغييرات كثيرة فهو انتقل من تسمية "العين" في فجر الاسلام الى تسمية "صاحب الخبر" في الدولة الاموية ثم تحول الى اسم جديد هو "صاحب البريد" في الدولة العباسية.

اما في عهد المماليك فقد اطلقت على افراد الجهاز الاستخباري تسمية البصّاص" او البصّاصين". اضافة الى التحولات التي مر بها في الدولة العثمانية. لكن العمل ومع تطور العالم كان ياخذ صفة منظمة اكثر من السابق.

ولطالما استخدم هذا الجهاز في مهمات سيئة وقمعية للشعوب وخصوصا في منطقتنا العربية وارتبط اسم الجهاز بفضائح وجرائم شنيعة كما حصل بعد تاسيس جهاز المباحث في مصر واناطة مسؤوليته الى صلاح نصر الذي اتاحت محاكمته نشر الكثير من المعلومات والفضائح عنه في مقالات وكتب اذ ركز على قمع المواطنين والمعارضين واضعف المجتمع المصري كثيرا فهزم في اكبر معاركه مع اسرائيل في الخامس من حزيران عام 1967.

وفي العراق لعبت الاجهزة الامنية في عهد البعث ابشع الادوار واستخدمت كاجهزة للتنكيل بالمواطنين وزرع الرعب في صفوفهم داخل وخارج العراق.

ومن الواضح ان اجهزة الامن كلما كانت قاسية ومتجاوزة على القوانين وعلى حقوق الانسان اودت بمجتمعاتها الى الانهيار بشكل اسرع.. والعراق كان مثالا واضحا على هذا!

وكمثال قريب يمكن ان نتذكر ان جهاز السافاك في ايران في عهد الشاه كان متسلطا على حركة المواطنين واشاعة الرعب في صفوفهم وتحويلهم الى مخبرين ضد بعضهم حتى وصل الامر يومها ان يكون مواطنا ايرانيا من كل سبعة مواطنين ايرانيين مخبرا!

وبالتاكيد ان الرقم كان اكبر في العراق ايام البعث اذ حاول النظام المجرم تحويل العراقيين الى مخبرين ضد بعضهم من خلال تحويل الحزب الحاكم الى جهاز مخابراتي يحصي على العراقيين انفاسهم.

والواقع ان اجهزة الامن والمخابرات والجاسوسية التابعة للدول ليست خيرا او شرا بحد ذاتها فهي مثلها مثل مشرط الجراح، فهو قد يتحول الى اداة قتل بيد قاتل او مجرم، وهو يتحول الى اداة لانقاذ الحياة بيد جراح ماهر!

واخيرا ينبغي التذكير ان هذه هي المرة الاولى التي يعمل فيها جهاز المخابرات الوطني في العراق وغيره من الاجهزة الامنية وباستخدام احدث الاساليب والتقنيات، بشرط اساسي ومهم هو الحفاظ على تجربة العراق الديمقراطية وحماية حقوق الانسان من اي انتهاك.

وما كان سكينا للقتل تحول اليوم الى مشرط جراح ينقذ حياة المواطنين.

LOGO

استخدم الآن الرقم الساخن للتبليغ عن اي عمليات ارهابية

تواصل معنا

<
  • Twitter
  • Telegram
  • Intagram